السبت، 2 ديسمبر 2017

نموذج للعقل العلمي في تاريخنا : النظّام المعتزليّ


في معرض قراءتي عن حياة احد كبار المعتزلة ورموزهم في تاريخ الاسلام , وهو أبو اسحق النظّام , وجدتُ له كلاماً مُدهشاً– بالقياس الى زمانه – حول إحدى الظواهر الطبيعية . فهذا نصّ كلامه عن ظاهرة تبخّر الماء وتحوّله الى مطر: "ثم تعود تلك الأمواهُ سيولاً تطلبُ الحدور (الحدور : مكان ينحدر فيه)، وتطلبُ القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء، فليس يضيعُ من الماء شيء، ولا يبطلُ منه شيء". أليس هذا ذاتُ كلامِ أهلِ العلم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ؟ ألا يعني كلامُهُ ان المادة لا تفنى ولا تستحدث ولكن تتحول من شكل الى آخر ؟   
فالمُدهش ان هذا الكلام يصدر عن شخصٍ وُلِد سنة 185 هجرية , أي انه عاش قبل اكثر من 1200 سنة , ولم تكن في زمانه علومُ البشرِ قد تطوّرت , ولا مبادئ الفيزياء قد عُرفت وشاعت, بل كان عصرُهُ بدائياً فيما يتعلق بمعارف الطبيعة , بلا مختبرات ولا أجهزة قياس ولا ميزانيات للبحث العلمي ,,,,,, كان الناسُ في أيامه ينسبون كل شيء الى الله , فالله يخلقُ المطر , والله يُرسله حيث يشاء , وليس للامر علاقة بتبخّر الماء بفعل الحرارة ولا بدورته في الطبيعة.

فكيف اذن يصدر عن النظّام ذلك الكلام العلمي الدقيق؟! أين السرّ ؟
الجواب هو في العقل العلمي. فالعقلُ العلميّ نسَقٌ واحدٌ على اختلاف الاجيال والازمان. العقلُ العلميّ هو طريقة تفكير يتميّز بها بَشَرٌ يجمعُ بينهم منطقٌ عقلانيّ يرتكزُ الى تحليل الظواهر والشواهد, وربط المسببّاتِ بالأسباب , والمقدماتِ بالنتائج , ويفهمُ هذا العالمَ الماديّ كما هو , ماديّ تسيّره قوانين المادة وليس روحانيّات الأديان ولا عواطف الانسان,,,,

ولننظر ايضاً الى النظّام وهو يتحدث عن ضغط الماء والهواء فيقول " ولابد لكل محصورٍ من أن يكون تقلّبه وضغطهُ على قدر الحصار، وكذلك الماء إذا اختنق." ألا يعني هذا أن الضغط الداخلي يعادلُ الضغط الخارجي في حالة الاتزان؟

وها هو النظّام ايضاً يخالف ما كان شائعاً في زمانه من ان الكون كله يتكون من عناصر أساسية أربعة : الماء والهواء والنار والتراب, فهكذا يتحدث عن ظاهرة احتراق المصباح الذي يعمل بالزيت (الدهن) :
"أن نار المصباح لم تأكل شيئاً من الدهن ولم تشربه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهنَ ينقصُ على قدر ما يخرج منه من الدخان والنار الكامنين، اللذين كانا فيه. وإذا خرج كل شيء فهو بُطلانه" .
ومعنى هذا الكلام ان النار هي طاقة كامنة تخرج من داخل الزيت بفعل الاحتراق , والزيت سينتهي ( بتعبيره : بُطلانُهُ)بعد ان تتحول كل ما بداخله من طاقة كامنة الى دخانٍ بفعل استمرار الاحتراق.

فأيّ عقلٍ علميّ امتلك ذلك الرجل ؟
ما أعظم عقل الانسان , وما أروعه حين يحلق ويبدعُ اذا تحرر من قيود الخرافة وأغلال الوهم ,,,,,

وأنا أكادُ أجزمُ أنه لولا الحرب الشنيعة التي شنها الحاكمون وفقهاؤهم على المعتزلة وتيارهم وعلى النزعة العقلانية في تاريخنا وعلى الفلاسفة وكل من يفكّر, لكانت الأمور تطوّرت في بلادنا حتى حصلت لدينا نحن النهضة العلمية الكبرى , قبل اوروبا



  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق