الأحد، 21 سبتمبر 2014

المسلم الذي لا يصلي


الشيخ العلامة ابن عثيمين هو من أكبر رموز وعلماء السلفية الوهابية في القرن العشرين, حتى ان هناك قناة فضائية ( تحمل رقم 1 بين مئات القنوات على نايل سات!) خاصة لبث فقهه وفتاواه.
  ولنلاحظ مدى قسوة الحكم الذي يصدره . أدعوكم القارئ الكريم الى قراءة السؤال رقم 40 ( من مجموع فتاويه المطبوعة والمنشورة من قبل دار الثريا - الجزء 12 ) والجواب عليه .
المسلم الذي لا يصلي فهو كافر وخارج الملّة , وجب أن تطلّق منه زوجته , ولا يكفّن ولا تصلى عليه الجنازة!







لم يتردد الشيخ الكبير في اطلاق وصف الكفر . لم يقل عن الرجل : لعلّه مقصّر , لعلّه متكاسل , لعلّه متشكك ,,, لم يقل عنه " عاصي " ولا " فاسق " , بل " كافر "  ولا شيء سوى " كافر " ! لم يقل لنقبل منه ظاهره وما يقوله بلسانه ولنترك باطنه الى الله يحكم فيه , كلا بل حكم عليه وانتهى الأمر

وهذه النزعة التكفيرية هي من أهم مميزات السلفية الوهابية , ويشترك بها جناحاها : الجهادي المتمرد والمسالم المطيع للحكام!
*******




وبمناسبة الكلام الذي نشرته أعلاه بشأن الشيخ ابن عثيمين وفتواه بأن الذي لا يصلي كافر وخارج الملّة , وجب أن تطلّق منه زوجته , ولا يكفّن ولا تصلى عليه الجنازة,,,, وصلتني رسالة عتاب (واتهام) من أحد الاصدقاء!
وملخص ما يقوله المرسل : ان الشيخ ابن عثيمين ليس مبتدعاً ولا ينطق بالهوى , بل هو دائماً يستند الى حجج شرعية قوية ومعتبرة في آرائه وفتاواه ,,, وكان ينبغي عليك لو كنتَ منصفاً أن تبيّن الوجه الشرعي الذي استند اليه الشيخ الكبير في فتواه , وليس فقط أن تذكر الحُكم بقصد التشنيع عليه.
وأجيبُ : أنا نشرتُ نص فتوى الشيخ كاملاً بدون اقتطاع ولا تلاعب. وهي مطبوعة ومنشورة ويمكن لمن شاء الرجوع اليها بسهولة. وقد نشرتُ الصفحتين وبهما نص السؤال والجواب بتمامهما.
*******
وأجدها فرصة لكي استرسل وأستفيض بشأن هذا الموضوع المهم , والذي في الحقيقة ينقلنا الى قضيةٍ أعمّ : هل الايمانُ اعتقادٌ في باطن القلب ونطقٌ باللسان أم انه يتطلبُ العملَ ايضا ؟ باختصار : هل الايمانُ تصديقٌ واعتقاد أم تصديقٌ وعمل معاً؟ هل يشترط في الانسان لكي يكون مسلماً أن يقوم بأعمال معينة , عبادات أو التزام اوامر و نواهي مثلا , أم يكفي ما يقوله بلسانه ويُترك ما يبطنه بقلبه الى الله ليحكم فيه ؟؟
واضح تماما ان العلامة ابن عثيمين ( وهو طبعا ينطق بلسان تيار السلفيّة في الماضي والحاضر ) حاسمٌ في رأيه : من لايصلي فهو كافر . انتهى الأمر .
ولكني اقول : ان الامر ليس بتلك السهولة بل أعقد من ذلك بكثير.
*****
وفي فتواه لم يذكر العلامة ابن عثيمين الاساس الشرعي الذي استند اليه في تكفير المسلم الذي لا يصلي وإخراجه من الملة. ولذلك سوف أجتهد انا في تبيان ذلك:
الارجح ان يكون أهم دليل شرعي استند اليه الشيخ ابن عثيمين هو الحديث الوارد في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله عن رسول الله (ص) انه قال ( بين الرجلِ وبين الشركِ والكفرِ تركُ الصلاة ). وهذا الحديث يدعم حجة ابن عثيمين في تكفير تارك الصلاة على الاطلاق لأنه لم يقل تارك الصلاة عمدا أو جحودا بل جاء اللفظ بلا تقييد.
ولأن البحث في موضوع الاحاديث يطول ويتشعب , فسوف اقتصر في هذه العجالة على صحيح مسلم حتى نتجنب قضية اختلاف المصادر ودرجة قوتها وضعفها . أي اننا سنتكلم من صحيح مسلم ايضا وهو الذي استندت اليه فتوى ابن عثيمين.
سنجد في صحيح مسلم عدة أحاديث تخالف حديث تكفير تارك الصلاة الذي أشرنا اليه . وهذه أهمها :
 حديث عثمان بن عفان عن رسول الله (ص) انه قال ( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ).
حديث معاذ بن جبل عن النبي (ص) انه قال ( ما من عبد يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله , إلاّ حرّمه الله على النار ).
حديث ابي هريرة أن النبي (ص) أرسله ليبشّر كل من لقيه وهو ( يشهدُ ان لا اله الا الله مستيقناً به قلبه ) بالجنة .
حديث عبادة بن الصامت ان النبي (ص) قال ( من شهد ان لا اله الاّ الله وأن محمدا رسول الله , حرّم الله عليه عليه النار ).
وايضا حديث أبي ذر الغفاري انه سمع رسول الله (ص) يقول :
(ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة.
 قلتُ: وإن زنى وإن سرق ؟
قال: وإن زنى وإن سرق!
 قلتُ : وإن زنى وإن سرق؟
 قال وإن زنى وإن سرق. ثلاثاً. ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر   ).

اذن لدينا مجموعة من الاحاديث من نفس صحيح مسلم ومروية عن عدة صحابة كلها تؤكد نفس المعنى : وهو ان الايمان مسألة قلبية وليست مرتبطة بالعمل . وهذا طبعا يخالف حديث (بين الرجلِ وبين الشركِ والكفرِ تركُ الصلاة ) . 
وكثرة الاحاديث التي تشترط الاعتقاد القلبي فقط كدليل على الايمان وتنوّعها تجعلها مرجّحة على حديث جابر بن عبد الله. وحديث ابي ذر بالذات لافتٌ للنظر ! فأبو ذر لا يكاد يصدّق ما يقوله الرسول (ص)  وما يظهره من تساهل تجاه شروط الايمان الى حد أنه يراجعه في ذلك ثلاث مرات مما دفع النبي (ص) الى القول له ( رغم انف ابي ذر )! واضح أن أبا ذر كان يريد وضع شروطٍ على تعريف المؤمن , كضرورة اجتناب الكبائر على الاقل , ولكنّ الرسول(ص) رفض , وبإصرار.
******
وبناء على ما سبق , أميلُ الى الاعتقاد ان تصنيف الانسان كمؤمنٍ او كافر مسألة يرجع الحكم فيها الى الله عز وجل. فهو وحده الذي يحكم على ما في قلوب المسلمين وضمائرهم. وبالتالي لا يجوز ابدا إخراج شخصٍ من خيمة الاسلام الواسعة الاّ اذا هو أعلن ذلك. وأما من يقول بلسانه انه مسلم وينطق بالشهادتين فلا يحق لأحدٍ أبدا أن يقول عنه " كافر " . حتى لو ارتكب المعاصي والكبائر يبقى مسلماً ما لم يقل هو بنفسه انه غير مؤمن بالاسلام.

بقيت عندي نقطتان :
أولا : حديث (بين الرجلِ وبين الشركِ والكفرِ تركُ الصلاة) الذي يستند اليه دعاة التكفير ليس بالضرورة أن يكون باطلاً. بل ربما يكون هناك وجه لتأويله : فقد يكون النبي (ص) اراد التشديد على أهمية الصلاة فاستخدم لفظ ( الشرك والكفر) من قبيل التغليظ على من يتركها والتأكيد على أهميتها. ومن ذلك ايضا قوله (ص) : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) , فمعروف ان القتال بين المسلمين لا يقتضي كفرهم , والرسول (ص) ذكر الكفر من أجل التشديد في النهي, فكأنه يقول : اذا تقاتلتم ايها المسلمون فستصبحون بفعلكم الشنيع هذا كالكفار.
فاطلاق لفظ الكفر على فعل ما لا يقتضي حتماً أن يؤخذ بظاهره.
ثانيا : ان الرأي الشائع بين مذاهب اهل السنة الاربعة يمكن تلخيصه كما يلي : اتفق الشافعية والمالكية والاحناف بأن تارك الصلاة تهاونا او كسلا او لأي سبب كان غير الجحود لا يُكفّر.
وحده الامام احمد بن حنبل قال بكفر من ترك الصلاة على الاطلاق. ومعروف طبعا ان الوهابية والسلفية عموما ترجع الى ابن حنبل في الاصل. ولذلك لا غرابة في رأي ابن عثيمين فهو قديم , ولكنه عبّر عنه بشكل صارخ وصادم.




السبت، 22 مارس 2014

الحاكمون ورواة الحديث


كان الحكام, بشكل عام, حريصين على التواصل مع الذين يتصدّون لرواية أحاديث النبي(ص). وتلك طبعاً طريقة فعالة في اضفاء الشرعية على حكمهم وضمان حثّ العامة على طاعتهم, ونسبة ذلك إلى النبي(ص).
وبدأ ذلك مبكراً , من أيام معاوية وعلاقته مع ابي هريرة, واستمر من بعده.
وسوف أتكلم هنا عن محدّث عَلَمٍ معروف , وهو محمد بن شهاب الزهري ( توفي سنة 124 للهجرة) الذي يعتبر من أهم رواة الأحاديث لدي الشيخين البخاري ومسلم.
وقد تتبعتُ بعضاً من سيرته وأخباره في عدد من أهم مصادر التاريخ ورجال الحديث : الطبقات الكبرى لابن سعد, وفيات الاعيان لابن خلكان, تاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الاسلام للذهبي.
وهناك اجماع على ان الزهري كان على علاقة وثيقةٍ متواصلة مع ملوك بني أمية. وكان يدخل عليهم يجالسهم كثيرا.ويذكر المؤرخون ان الخليفة هشام بن عبد الملك أدّى عنه مبالغ مالية كبيرة (ديون كانت عليه) , سبعة آلاف دينار ( او ثمانية عشر الفا في رواية اخرى). وقد قبلَ الزهري عطاءات الخليفة شاكرا.
وليس هشام فقط. فقبله, كان عبد الملك بن مروان قد منحه الأموال وأمرَه بالتفرغ للدراسة, وكان سليمان بن عبد الملك قد عينه مستشاراً له, وبعدها أصبح مقرباً من الخليفة عمر بن عبد العزيز, ومن ثم قاضياً ليزيد بن عبد الملك, إلى أن قرّبه هشام أخيراً وجعله مؤدباً لأولاده.
ولا بد أن ارتباطات الزهري مع ملوك بني أمية غدت عميقة إلى درجة أثارت حوله بعض الشبهات, رغم شهرته بين الناس كعالمٍ كبير وإمامٍ ومحدّثٍ ثقة.
فقد نقل ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) نقلاً عن كتاب (احياء علوم الدين ) للغزالي نص رسالةٍ بعثها للزهري رجلٌ محبٌ ناصحٌ , يحذره فيها من عواقب مخالطة السلاطين ويدعوه للكف عن ذلك. وفيما يلي مقتطفات من تلك الرسالة المؤثرة:
" عافانا الله وإياك أبا بكرٍ من الفتن. فقد أصبحتَ بحالٍ ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك. فقد أصبحتَ شيخاً كبيراً وقد أثقلتكَ نِعمُ الله عليك....
وليس كذلك أخذ الله الميثاقَ على العلماء. فإنه تعالى قال ( لتبينّنهُ للناس ولا تكتمونه) .
 واعلمْ أن أيسر ما ارتكبتَ , وأخفّ ما احتملتَ, أنك آنستَ وحشة الظالم, وسهّلتَ سبيل الغيّ, بدنوّكَ إلى مَن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك.
اتخذوك – أبا بكر – قطباً تدور عليه رحا ظلمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلائهم ومعاصيهم , وسلّما يصعدون فيه إلى ضلالتهم. يُدخِلون بك الشك على العلماء , ويقتادون بك قلوبَ الجهلاء ..."

*********
وفي الجانب الشيعي من الاسلام , أشير الى حالة العلاّمة محمد باقر المجلسي , وهو صاحب الموسوعة الحديثية الكبرى لدى الإماميّة : بحار الأنوار ( 110 مجلدات), وهو طبعاً من أعلام المذهب ورموزه الكبار.
وتفيدنا سيرة العلاّمة المجلسي أنه كان شديد القرب من البلاط الملكي أيام حكم الملوك الصفويين. ورغم ان الشاه سليمان الصفوي كان على المستوى الشخصي شديد الانغماس في حياة اللهو والخمر والليالي الحمراء ومولعاً بالجواري والمُتع ,,,, إلاّ أن ذلك لم يمنع العلاّمة المجلسي من أن يكون قريباً منه وموالياً له, ليمنحه الشرعية الدينية أمام الرعية. وفي المقابل قام الشاه سليمان بتعيين المجلسي بمنصب (شيخ الاسلام) وهو أعلى منصب ديني في ايران آنذاك وبالتالي فوّضه بالسلطة الدينية العليا في كل انحاء البلاد. واستمرّ العلامة المجلسي في الارتباط بالبلاط الصفوي بعد وفاة الشاه سليمان , بل انه قام بنفسه بتتويج خليفته الشاه سلطان حسين لدى اعتلائه العرش.
وفيما يلي أنقل كلاماً للعلامة المجلسي من كتابه ( عين الحياة ) الذي عرّبه وحققه سيد هاشم الميلاني .
قال المجلسي تحت عنوان (في حقوق الملوك ورعايتهم والدعاء لصلاحهم وعدم التعرّض لسطوتهم) :
" اعلمْ ان للملوك الذين دانوا بدين الحق حقوقا كثيرة على الرعية, حيث انهم يحرسونهم ويدفعون اعداء الدين عنهم ويحفظون عرضهم ومالهم وانفسهم. فلا بد من الدعاء لهم ومعرفة حقهم"
واضاف العلامة المجلسي كلاما معناه انه حتى إن انحرف الملوك عن جادة الصلاح والعدالة فلا بد من الدعاء لصلاحهم ,,, ولا بد من رعاية مطلق الملوك لأن معصيتهم تجلب البلاء, واستجلابُ البلاء محرّم ,,,,,,,,,,,,


الاثنين، 17 فبراير 2014

المعجزات


 
يوجد في القرآن الكريم حوارٌ مركزيّ بين طرفين : الله عز وجل من جهة , والمشككون في نبوّة محمد (ص) من المشركين واهل الكتاب من جهة أخرى.

وهذا الحوار المركزيّ عنوانه وموضوعه هو طلب الآيات , بمعنى المعجزات , الدالّة على مصداقيّته ولإثبات نبوّته. ونرى هذا الحوار منبثاً في مواقع عديدة من سور القرآن وبالذات المكية منها. ويبدو دور الرسول (ص) في هذا الحوار مجرّد وسيط بين الطرفين المتحاورين دون ان يكون له دورٌ ذاتيّ فيه.

لنتأمّل الآيات التالية التي يطلب فيها مشركو قريش من محمد (ص) ان يأتيهم بمعجزاتٍ خارقة للطبيعة لكي يثبت انه نبي مرسل , بل ويتحدّونه وباصرار :

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ  وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }

{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ . قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

 { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة }

{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتينَا بآيَةٍ منْ رَبّه }

{أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ }

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}

( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا , أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا , أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً , أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً)


فنحن هنا امام طلبٍ متكرر يُوجّه الى الرسول (ص) , بل وتحدٍّ , بأن يأتي بمعجزةٍ خارقة تدعم ادّعاءه بأنه نبيٌّ مرسل من رب العالمين.

ويكون الجواب الالهي بالرفض المبين. يرفض ربنا "منطق المعجزات" الذي يلحّ عليه خصوم النبي(ص) ويرفض الاستجابة لطلباتهم التي تكررت الى حد ان النبي (ص) ذاته شعر بنوع من الحرج والضيق (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) . علماً بأن النبي(ص) كان في أمس الحاجة الى تلك المعجزات حين كان مستضعفاً في مكة يواجه قومه الذين كانوا يستهزؤون بذلك النبي الذي ليس عنده معجزات ولا خوارق للطبيعة ولا اشياء عجيبة مٌبهرة ,,,, لم يكن عنده سوى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة التي لم تقنع القرشيين  ولم تؤثر بهم على مدار 12 عاماً الاّ قليلا.

اذن ؟؟

يريد الله عز وجل من الناس أن يؤمنوا بناءً على الاقتناع والتصديق برسالة محمد (ص) ومضمونها وجوهرها , وهدفها وغايتها,,,, وليس استنادا الى العجائب والغرائب

يريد الله من الانسان ان يؤمن استنادا الى ما يطمئن له قلبه ويصدّق به عقله,,,, وليس استنادا الى العجائب والخوارق


********

ورغم الوضوح القرآني تماماً في رفض " منطق المعجزات " الذي ألحّ عليه مشركو قريش , والاصرار الالهي على عدم الاستجابة لمطالباتهم لمحمد (ص) بأن يأتي بمعجزاتٍ خارقة للطبيعة ليُثبت بها صدق نبوّته ,,,,,, الاّ أننا نجد أن كتبنا وتراثنا ومصادرنا للسيرة النبوية مليئة بأخبار المعجزات والخوارق , بل وطافحة بها ! ولا تكاد تخلو صفحاتها من كلامٍ عن تدخّلٍ الهيّ مباشر في أحداث سيرة النبي(ص) عن طريق معجزات تتكرر وتتلاحق في جميع مراحل حياته (ص) منذ يوم ولادته في مكة الى وفاته في المدينة !

وذلك هو الحال في سيرة ابن اسحق / ابن هشام , ومغازي الواقدي , وطبقات ابن سعد , وتاريخ الطبري , وسيرة ابن كثير ,,,, وغيرها من المصادر الاسلامية.

معجزات وخوارق وأمور عجيبة ومُبهرة تتوالى أخبارها وتفاصيلها في مصادرنا الى حد يثير الدهشة والعجب ! فلو كان الامر كذلك فلماذا اذن انكرته الآيات القرآنية التي أشرنا اليها ؟ ولماذا لم تقل الآيات القرآنية : ها قد أتيناكم يا معشر قريش بالآيات والمعجزات التي طلبتموها ؟! 

وبعد ذلك كله , هل يُلامُ المرءُ إن هو نظر بعين الشك والريبة الى روايات الرواة وأخبار المحدّثين في مصادرنا وكتبنا ؟ هل يُلام المرءُ إن هو لم يصدّق بها كلها ويسلّم بها تسليما ؟!

وهل يُلامُ المرءُ إن هو أصرّ على التدقيق والتمحيص , وعلى أن يُعرض النقلُ على العقل , قبل التصديق والتسليم ؟!

******* 

ولكن كيف تجمّعت تلك الكمية الهائلة من اخبار المعجزات وخوارق الطبيعة في مصادرنا ؟ من اين أتت ؟

الجواب عندي : حُسنُ النيّة , والرغبة في "خدمة الاسلام " !

فكثيرون جداً من المسلمين المؤمنين أرادوا أن " يقدموا خدمة " للاسلام أو لنبيّ الاسلام , حسب اعتقادهم , عن طريق الترويج لتلك المعجزات وخوارق الطبيعة التي من شأنها أن " تدعّم " ايمان المسلم وتردّ على الخصوم والاعداء , وتفحمهم , في ذات الوقت! ومن هنا نبعت تلك " الاخبار " , بحسن نيّةٍ من قائليها, طالبي الأجر والثواب! فلسببٍ ما اعتقد هؤلاء ان الاسلام , ونبيّ الاسلام , لا يجوز ان يكونوا بلا معجزات وخوارق للطبيعة , فكان لا بد ان يتدخلوا.

وسوف استعرض مثالاً , وهو الحديث المشهور للصحابي انس بن مالك والذي يقول فيه ان النبي (ص) وهو طفل صغير قد جاءه الملاك جبريل , واختطفه من بين أقرانه , فشقّ صدره ثم استخرج منه قلبه فأزال منه " علقة " , هي حظ الشيطان منه , ثم غسله بماء زمزم في طستٍ من ذهب , وخيّط صدره بعد ان تمّت عملية التطهير الالهي تلك. واضاف انس بن مالك انه : كان يرى أثر المخيط في صدره (ص) !

وقد اعتمد أصحاب السير والتفاسير هذه الرواية واستفاضوا فيها , ولم يكلفوا انفسهم عناء التفكير : هل ان الله عز وجل يحتاج الى اجراء تلك العملية الجراحية لتطهير نبيّه من شرور الشيطان؟ وهل للشيطان حظٌ أصلاً في النبي(ص)؟ وهل الشر في الانسان هو مجرد قطعة أو غدّة يمكن استئصالها من جسمه ليصبح مطهرا من الآثام ؟

وكثيرٌ من أهل التفاسير أخرجوا هذه القصة ضمن شرحهم لآية ( ألم نشرح لك صدرك ) , حيث جاءت حادثة شق الصدر منسجمة مع ظاهر لفظ الآية.

ولكن ماذا عن رواي الحديث , الصحابي انس بن مالك, الذي أكّد أنه كان يرى بأم عينه أثر الخيط على صدر النبي (ص) بعد عشرات السنوات من حادثة الشق تلك ؟ هل هو يكذب ؟!

حاشا وكلا. لا يمكن ولا يجوز اتهامه بالكذب وهو المسلمُ المؤمنُ الأنصاريّ الذي كان يخدم الرسول(ص) وهو غلامٌ يافعٌ في المدينة لعدة سنوات. ولكن الأمر أبسط من ذلك بكثير! كل ما هنالك ان أنس بن مالك ربما رأى ندبة او جرحا او ما شابه على صدر النبي (ص) فربط الأمر بآية (ألم نشرح لك صدرك) وبتلك القصة التي لا بد انه سمعها من غيره ( لأنه لم يكن قد وُلد حينها) , علماً بأن تلك القصة لم ترد في الحديث على لسان النبي(ص) ذاته بل بصيغة خبرٍ عما حصل له.

كما لا يمكن اغفال ان السيدة عائشة وغيرها من زوجات النبي(ص) لم يذكرن شيئا عن أثر ذلك الخيط على صدر النبي (ص) رغم كونهنّ الأكثر احتمالاً لرؤيته من غيرهن.

هكذا كانت حالُ الرواة واهل الأخبار والمفسرين , بل وحتى الصحابة ,,,, يتساهلون في رواية أخبار المعجزات والخوارق في أحداث السيرة , وأحياناً تتداخل آراؤهم وتأويلاتهم لما يرونه يحصل أو للأحداث والتطورات , مع تفسيرهم لآيات القرآن , مع رغبتهم في خدمة الاسلام ونبي الاسلام , ونيل رضا الله>

*******
ولكن هل يعني ذلك ان النبي (ص) كان بلا معجزات ؟؟

بالتأكيد لا . بل على العكس تماما : كانت معجزاته أكبر وأهم بكثير من كل تلك الخوارق والعجائب!

حياته (ص) كلها معجزة. ولادته يتيماً وحيدا ونشأته فقيراً , عفيفاً , صادقاً أميناً, خلوقاً في مجتمع فاسدٍ موبوءٍ في مكة.

تمسّكه بدعوته , اصراره على الحق , صبره على الأذى ,وعزمه الذي لا يلين ,,,, معجزة.

قولُه لعمّه المشفق المحب حين اتاه ليقنعه بقبول عروض قومه والتخلي عن دعوته ( يَا عَمّ وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته ).

صمودُه حين تعرض للضرب والاهانة وللرجم بالحجارة من سفهاء ثقيف بالطائف , ودعاؤه وقد نزفت دماؤه وهو وحيد منبوذ من قومه ( اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي) ,,,,, معجزة

عفوُه عن جبابرة قريش السفاكين الذين طالما آذوه وعذبوه وتسامحه تجاههم وقوله ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ,,,, معجزة.

كلامه , حكمته , علمه , نوره ,,,,, انجازاته ونجاحاته ,,,, وقرآنه ,,,,, كلها معجزات , وأيّ معجزات

ولعمري ان معجزاته هذه تفوق بكثير , بكثير , بل وبما لا يقارن , تلك الخوارق والعجائب التي يتحدثون عنها من قبيل صخرةٍ تنفلق أو شجرةٍ تتكلم ,,,,,,,,,,,,  

*******

وأما عشاق المعجزات في زماننا هذا فقد انصب اهتمامهم على شيء يسمونه ( الاعجاز العلمي في القرآن والسنة ) , فخصصوا له الميزانيات الضخمة وعقدوا له المؤتمرات واستقطبوا له " دكاترة " ومهندسين  ليروّجوا له ويظهروه للعالم حتى يُبهروه !

ولسانُ حالهم يقول : أيها العالم المتقدم تكنولوجياً وعلمياً , لا تتعبوا انفسكم فمهما فعلتم فلن تتفوقوا علينا نحن المسلمين ! فلدينا نحن  القرآن والسنة وكل ما تنجزونه وتخترعونه , وكل نظريات علوم الطبيعة , موجودة لدينا من 1400 سنة , أي قبلكم بكثير , أيها المساكين ! موجودة في قرآننا نحن , وتحدث عنها نبيّنا نحن ,,,, ولكن كل ما هنالك أنه لم يلاحظها أو ينتبه لها أحدٌ منا نحن المسلمين الاّ مؤخراً (وبعد أن وصلتنا منكم)  , ولكنها موجودة أكيد

جماعتنا يتعاملون مع الغرب ( والشرق ) بهذا المنطق , سواء صرّحوا بذلك أم لا.

وهذه نماذج من " ابداعاتهم " ,,,, ولنلاحظ مدى التكلّف والتعسّف في التأويل من أجل الوصول الى "معجزة" !!  مهووسون بنظرية الاعجاز العلمي الى الحد الذي يجعلهم يأخذ كلمة من هنا , وأخرى من هناك ليركّبوا منها معجزات كيفما اتفق ,,,,




 
ليس عندي تفسير سوى ان الأمر عقدة نقص . عجز وتقصير عن الابداع والابتكار , وفشل في ميدان العلم , يؤدي الى هذا المنهج ,,, منهج عبد الدائم الكحيل وزغلول النجار وبقية جماعة " الاعجاز "
*******
وفي موضوع المعجزات الخارقة للطبيعة, بقيت نقطة أساسية أرغب في توضيحها تتعلق بأصل إمكانية حصول أمر خارق للطبيعة من حيث المبدأ .
أقول : ان الله عز وجل , بحكمته وعظمته , خلق " نواميس الكون " أو  "قوانين الطبيعة" من فيزياء وكيمياء بلغتنا الحديثة. وهي التي على أساسها يسير كل شيء في هذا الكون .
و " نواميس الكون " مُحكمة , وبديعة , ودقيقة جدا, وتتحكم بالحركة والمادة والطاقة والعلاقات بين الأشياء بشكل منتظم  وبقوانين لا مجال فيها للخلل ولا للزلل.    
وبالتالي فمن المستحيل ان يحصل في هذا الكون أي شيء يناقض قوانين الفيزياء أو " نواميس الكون " التي وضعها الخالق عز وجل.
لماذا ؟ لأن ذلك لو حدث لكان معناه أن " نواميس الكون " كلها قابلة للنقض , وبالتالي نصل الى حالة من العبثيّة حيث لا ضابط ولا رابط بين العلة والمعلول وبين الاشياء ومسبباتها. وذلك يعني ان " نواميس الكون " كأنها لم تكن , أو ان الخالق عز وجل يلهو ويعبث , حاشاه.
وقد يقول قائل : ان الذي خلق " نواميس الكون " قادر على أن يجعلها تُنقض في بعض الأحيان بإرادته. ولكن هذا قول مغلوط , لأنه يلغي تعريف " نواميس الكون " من حيث كونها بالضرورة تنظم كل شيء بانضباط ونظام دقيق. أي أنه لو أراد الله أن يجعلها  قابلة للنقض فلن تعود نواميس كونية أصلاً.
وبالتالي فإن حجراً على الأرض لا يمكن أن يرتقع ويطير في الهواء الاّ اذا أثرت عليه قوة مادية أكبر من وزنه الى أعلى. عندها فقط سيطير , ولن يطير بأي وسيلة أخرى أبداً , لا بمعجزة ولا بغيرها ,,,,, ذلك مستحيل ,,,,, لأن تلك من نواميس الكون وبالتالي هي من ارادة الله الكليّة التي لا رادّ لها