الخميس، 30 يونيو 2011

المزيد من " التضليل العلمي " بشأن ماء زمزم

اعتدنا على جماعة " أثبت العلم الحديث " و " اكتشف العلماء " الذين يستهلون كلامهم بعبارة من هذا النوع قبل ان يصلوا الى مبتغاهم وهو الترويج لمعجزة "علمية" خارقة ينسبونها الى آيات من القرآن الكريم أو أحاديث نبوية او مقولات اسلامية شائعة. وهم طبعاً لا يوضحون للقارئ كيف ومتى اثبت العلم الحديث ادعاءاتهم, ولا إن كان ما يقولونه مجرد كلام صادر عن فردٍ أو جهةٍ معينة أم انه مما اعتمده علماء العصر الحديث وأقروه في مراكز الابحاث الرصينة والجامعات الشهيرة في العالم. وأحياناً يقوم هؤلاء بذكر اسم "عالم" ألماني أو أمريكي قال كذا وكذا من اجل تقوية مزاعمهم وتوصيل انطباع للقارئ البسيط بجديتها وانها محل ثقة. ولنأخذ مثالاً على ما نقول من الموقع الرسمي "للدكتور" زغلول النجار. وزغلولٌ هذا هو طبعاً طرزان " الاعجاز العلمي في القرآن والسنة" في زماننا. لنرى ماذا يكتب حول ماء زمزم :
نعم ماء زمزم له مزية من حيث التركيب , فقد قام بعض الباحثين من الباكستانيين من فترة طويلة فأثبتوا هذا , وقام مركز أبحاث الحج بدراسات حول ماء زمزم , فوجدوا أن ماء زمزم ماء عجيب يختلف عن غيره , قال لي المهندس " سامي عنقاوي " مدير – رئيس مركز أبحاث الحج : عندما كنا نحفر في زمزم عند التوسعة الجديدة للحرم.........
فنلاحظ ان زغلولاً يتكلم عن "باحثين " من الباكستان "أثبتوا " مزايا عجيبة لماء زمزم, دون أن يدلنا على أبحاثهم تلك, أين هي وبأي أسلوب تمّت؟  ويستعمل "الدكتور" كلمة "أثبتوا" التي تعني الجزم والقطع لكي يوصل للقارئ فكرة أن الامر مؤكد وليس مجرد نظريات في الأذهان. ونلاحظ ايضاً ان "الدكتور" زغلول يستعمل أسلوب كتب الأحاديث والفقهاء " حدثنا ابو فلان , عن ابن علان ..." فيقول ان المهندس سامي عنقاوي "قال له" كذا وكذا عن أعاجيب ماء زمزم! أي أن "المعجزة العلمية" عند "الدكتور" زغلول تعتمد على "قال لي سامي " و " خبّرني اسماعيل" ! ولو كنتُ أنا رئيس جامعة ويلز البريطانية التي منحته شهادة دكتوراة في علم الجيولوجيا لظهرتُ على الملأ واعلنتُ سحب الشهادة منه بسبب اساءته لسمعة الجامعة ومستواها!
ولكنّ هؤلاء انتبهوا الى أن كلامهم المُرسل ذاك به ضعفٌ ظاهر, وأن كثيراً من الناس يشكّون في صحة ما يقولونه عن " أثبت العلماء" بسبب عموميته وسهولة اطلاقه بلا دليل. ولذلك بدأوا في استعمال أسلوب جديد يتلخص في ضخ كمية كبيرة من الارقام والتفاصيل الدقيقة التي توحي للقارئ العادي بأن الامر "علمي" وموثق, فهو اذن صحيح وليس مجرد كلام في الهواء. ولكن الحقيقة ان كلام هؤلاء ليس علمياً ولا موثقاً ولا صحيحاً ولا ما يحزنون. بل الامر لا يعدو ان البعض منهم يقوم بجمع معلومات علمية كيفما اتفق, يخلط فيها الحابل بالنابل , والصحيح بالخطأ , والمثبت بالوهمي ليعطي الموضوع مظهراً علمياً, كذباً وخداعاً. وهم يعتمدون على ان القارئ ليس متخصصاً في المسائل العلمية وهو بالتالي ليس في موقع يمكنه من نقض ما يقولون أو الحكم عليه, فلا يبقى له سوى التسليم لهم بما يدعونه .
وسنأخذ مثلاً على ما نقول. فقد انتشر ايميل ترويجي بشأن ماء زمزم , به كلام كثير وتفاصيل أقتطف منها بعض الفقرات وأردّ عليها. يقول كاتبوه :
... وقد يتسائل البعض لماذا ماء زمزم ؟؟؟!!!لأن ماء زمزم : يشفي المريض بإذن الله تعالى ، ويشبع الجائع ، ويسد ظمأ العطشان ، ويجلي السحر عن المسحور ، ....وهذا لا يوجد في غيره - مطلقا - من المياه الأخرى .
وقد قام العلماء بتحليل مياه زمزم ، فوجدوها مياها ً خاليه تماما  %100 من أي نوع من الجراثيم ، وهذا نادر ٌ جدا ً في مياه الينابيع والآبار .أضف إلى ذلك انها أغنى بالمواد النافعه من غيرها من الآبار الأخرى الموجوده في مكه المكرمه .والمحيطه ببئر زمزم بمعدل بلغ أكثر من ثمانية أضعاف ، حيث بلغ معدل المواد الذائبه النافعه في زمزم 2000 ملغم في اللتر الواحد .
مياه معدنية                                                                    ماء زمزم                   

صوديوم                                                                        250
كالسيوم                                                                      200
بوتاسيوم                                                                      120
مغنيسيوم                                                                     50
كبريتات                                                                        372
نترات                                                                            366
فوسفات                                                                       0.25
نشادر                                                                            6
مواد أخرى                                                                     362.75
ـــــــــــ                                                                        _______
مجموع المواد النافعه : 260 ملغم/لتر           مجموع المواد النافعه : 2000 ملغم/لتر
 

وانا لن أعلق هنا على نظرية ان ماء زمزم يشفي المريض ويشبع الجائع, بل سوف اركز على التفاصيل "العلمية" التي ذكروها , فأقول :
-        ان مصطلح "المواد النافعة" الذي يستعملونه غير علمي وغير دقيق. فالمقصود بها كل الأيونات الملحية المذابة في الماء Total Dissolved Solids, أي مجموع العناصر المعدنية الموجودة في الماء بشكل ذائب. وهذه في الحقيقة قد تكون مفيدة للجسم وقد تكون مضرة, حسب تركيزها. فلكل عنصر منها مدى معين (حد أعلى أو ادنى) يكون فيه مقبولاً من ناحية صحية , أو مفيداً. ولكن اذا زاد تركيز العنصر عن الحد المقبول يصبح غير مستساغ للشرب أو حتى مضراً. اذن المسألة ليست بالرقم المرتفع لما يسمونه "المواد النافعة" بل هي بمدى ملائمته لصحة الانسان.
-        ومواصفات مياه الشرب السليمة المتفق عليها في أغلب دول العالم, وكذلك توصيات منظمة الصحة العالمية تقول ان مجموع الاملاح المذابة في الماء يجب أن تكون أقل من 500 ملغم/لتر حتى يكون مقبولاً للانسان, وتضيف انه من الناحية الصحية يمكن للانسان أن لا يتضرر من ماء ملوحته تصل لغاية 1500 ملغم/لتر كحد أقصى (رغم أن طعمه يصبح مالحاً وغير مستساغ). وأما فوق 1500 ملغم/لتر فالماء يصبح مُضراً وغير مستساغ للشرب معاً. وهؤلاء يتحدثون عن تركيز املاح 2000 ملغم/لتر في ماء زمزم ! بل ويعتبرونه ميزة لأنه يحتوي هذه الكمية العالية من "المواد النافعة " !! فما رأيهم اذن بمياه البحر التي تحتوي على تركيز املاح مذابة يصل الى 40000 ملغم/لتر ؟ أليست بها "مواد نافعة" أكثر؟
وفقط لكي يستوعب القارئ الكريم الفكرة أشير الى أن المياه الطبيعية التي يشرب منها الانسان منذ آلاف السنين , أعني مياه الانهار, مثل نهر النيل, يكون تركيز الاملاح الكلية فيها يتراوح ما بين 300  - 400 ملغم/لتر. ولذلك تقوم شركات تعبئة المياه بالتحكم بدرجة الملوحة في المياه التي تبيعها فتجعلها 260 ملغم/لتر أو أقل من ذلك من أجل تحسين طعم العذوبة. وهذا مقبول طبعاً. أما 2000 ملغم/لتر فليست مياهاً للشرب.
-        وأشير ايضاً الى مجموعة النترات Nitrate والتي يقولون ان تركيزها في مياه زمزم هو 366 ملغم/لتر ! فالمواصفات العالمية كلها , ومنها  EPA  وكذلك  توصيات WHO تضع حداً أعلى للنترات في ماء الشرب هو 10 ملغم/لتر ! وبعضها يتساهل لغاية 20 أو 25 ملغم/لتر لأنها فوق ذلك تصبح مضرة بالجسم بشكل مباشر واكيد. وهؤلاء يقولون 366 ملغم/لتر !
أي أن التحليل الكيميائي الذي ينشرونه لماء زمزم هو من الناحية العلمية لماء غير صالح للشرب . هم طبعاً لا يعرفون ذلك , لأنهم فقط يريدون ارقاماً يخدعون بها القارئ البسيط. او ربما يعرفون ولكنهم لا يبالون بالكذب " في سبيل الله " !! وانا مهندس كيميائي ومتخصص بمعالجة المياه منذ 19 سنة , فلستُ متطفلاً على الموضوع , وما أقوله صادر عن معرفة تامة ودراية مؤكدة.
ويتابعون كلامهم :
ومعلوم أن جسم الإنسان يتركب من نفس العناصر التي تتكون منها عناصر الأرض ، فوجود هذه العناصر بهذه النسب يُعطي الجسم توازنا ً طبيعيا ً في مركباته لا زياده ولا نقصان . ومعلوم أن سبب معظم الأمراض : إما اختلال في نسب المركبات ، وإما انعدامها مطلقا ً ، فتأتي مياه زمزم لتعوِّض هذه النسب المختله او المنعدمه !!! !! !
فهل صحيح ان جسم الانسان يتكون من نفس العناصر التي تتكون منها الارض؟ من ناحية علمية الجواب هو بالنفي. فجسم الانسان يتكون بشكل رئيسي من مركبات عضوية – أساسها ذرات الكربون المرتبطة بالهيدروجين والاكسجين, بينما تشكل العناصر غير العضوية جزءاً صغيراً جداً من الجسم (مثل الفسفور والحديد ). هذا طبعاً بالاضافة الى الماء الذي يكون النسبة الكبرى من الجسم. وأما الارض , وأساسها التراب والصخور فهي تتكون بالدرجة العظمى من  مركبات غير عضوية : السليكا ومركبات الكالسيوم.
اي ان جسم الانسان اساسه مركبات عضوية بينما الارض (الرمال والصخور) اساسها مركبات غير عضوية, فكيف يدعون التماثل بينهما؟! هذا القول يشبه من يقول ان الاخشاب تشبه المعادن ! وذلك لا يمكن قبوله. واما ان مياه زمزم تعوّض اختلال نسب المركبات والعناصر في الجسم فهو مجرد كلام انشائي لا تعليق لي عليه.
ويتابعون :

والذي يُفسِّرغزارة مياه زمزم ، وغناها بهذا الكم الهائل من العناصر النافعه للجسم الإنساني ، وعدم جفافها ، وأنَّها باقيه إلى الأبد ، يُفسِّر ذلك كله : انها تقع في مركز الجاذبيه الأرضيه ، حيث تُشدُّ إليها المياه من مسافات بعيده ، محمله بكميات كبيره من العناصر النافعه والمفيده .
المزيد من الكلام العامّي عن العناصر النافعة. وأما ان زمزم تقع في مركز الجاذبية الارضية فهو مجرد كلام. اذ أين هو مركز الجاذبية الارضية؟؟ من أدراهم انه مكة؟ ثم ان الارض كروية ومركزها في نقطة البؤرة في جوفها وبالتالي فإن كل ما على سطحها سواء من ناحية الجاذبية الارضية.
ثم ينتقلون الى مرحلة دعاية مكثفة , فيقولون:
فائده ((1مقارنه بين  المُغذي الطبيعي (زمزم) والُمغذي الصناعي ) السيرومات(:
إن نسب ماء زمزم متوافقه ومنسجمه تماما مع حاجة أي جسم انساني .. ، بينما المُغذي الصناعي لايتناسب إلا مع حاجة جسم معين !!فعلى سبيل المثال : لو أعطي مريض السُكري مغذيا ً سكريا ً لأدى إلى وفاته ...ولو أ ُعطي مريض الضغط مُغذيا  ملحيا لأدى إلى وفاته ...أما ماء زمزم فيشربه جميع المرضى - بدون استثناء - ويكون سبباً في الشفاء بإذن الله - سبحانه وتعالى - .
ولا بد من صور تعبيرية لانجاح الدعاية:
ثم يتابعون الدعاية:
فائده (( 2
من الملاحظ أيضا ً أن ماء زمزم خفيف على المعده ، ويشربه الإنسان بكميات لايستطيع أن يشرب أمثالها من المياه الأخرى
فهل الماء الذي يحتوي على اربعة او خمسة او ستة اضعاف محتوى الاملاح الموجودة في مياه الشرب العادية (حسب ارقامهم هم) يمكن وصفه بِ " خفيف على المعدة" ؟! لو سلمنا بصحة ارقامهم لكان معنى ذلك أنه ماء ثقيل جداً وليس خفيفاً.

نتابع معهم :
فائده (3)
من خواص ماء زمزم -ايضا- أنه ينفع في علاج بعض الأمراض عن طريق صب الماء على العضو المُصاب , إذ يحتوي على نفس الخواص الكبريتيه ( مثل : أمراض الجلد ، الروماتيزم ، آلام المفاصل ، آلام الرقبه والعنق ... الخ   ...
وانا أسأل : كيف يكون ماء به خواص كبريتية مناسباً للشرب؟؟ المعروف علمياً وطبياً أن كبريتيد الهيدروجين (الذي يميز المياه الكبريتية) سام للانسان ولا يجوز شربه ابداً . كما انه غير مستساغ أصلاً من ناحية الطعم.
فلا يمكن الجمع بين القول ان ماء زمزم به خواص كبريتية تعالج امراض الجلد والمفاصل , وبين كونه ماء صحياً ومستساغاً للشرب. هذا محال. إما كبريتي أو مستساغ للشرب , وليس كلاهما.

سأتوقف الآن عن الرد التفصيلي على كلامهم رغم ان ما ذكرناه هو غيض من فيض مما يقولونه في منتدياتهم ومواقعهم , وكلامهم الكثير عن قدرة ماء زمزم على شفاء أصعب الامراض المستعصية كالسرطان وغير ذلك من مبالغات وادعاءات يدعمونها بشهادات لنساء عجائز شفين من الشلل بفضل ماء زمزم وغير ذلك من كلام لا تسنده أدلة علمية وليس وراءه منطق سليم ولا يمكن اثباته.
وأختم مقالي باعادة طرح التساؤل البديهي على اصحاب نظرية اعجاز مياه زمزم : لو كانت ادعاءاتهم تلك صحيحة فلماذا لا تقوم السعودية بانشاء أكبر مستشفى في العالم لعلاج السرطان وغيره من الامراض, في مكة المكرمة باستغلال ماء زمزم؟ ولماذا لا تظهر للعالم معجزات ماء زمزم , لعلهم يصبحوا مسلمين؟؟
 

الجمعة، 24 يونيو 2011

متخلفون من بيننا يتمنون عودة نظام العبيد والجواري

الموضوع هنا هو حول مقال بعنوان " ماذا خسر المسلمون بإلغاء الرق؟" وقد كتبه شخصٌ سمّى نفسه سيد أحمد مهدي. وانا أظن هذا اسماً وهمياً يختفي خلفه احد دهاقنة التيار السلفي في زماننا. فمستوى المقال وأسلوب الكتابة والعرض لا يشير الى كاتب هاوٍ أو سلفيّ بسيط. بل هو من كبارهم , ولا شك عندي بذلك, ولكنه لم يرغب في كشف هويته نظراً لهول ما يكتبه وينشره. وهو يلجا الى استخدام الأسس المنهجية والفكرية التي يتفق عليها السلفيون  في توضيح مزايا وفوائد نظام العبيد والجواري البائد. كما يحشد عدداً كبيراً من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وأقوال كبار علماء السلف في التاريخ في ليدعم بها طرحه.
وقد اختصرته الى النصف تقريباً تجنباً للإطالة . ومن شاء قراءة المقال كاملاً فهذا الرابط
 http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=190790
 
وقد تلقفت مواقع السلفيين الكثيرة هذه المقال بسرور وسعادة , وكانه فتحٌ عظيم! وبالاضافة الى " منتدى اهل الحديث " الذي نشره , وجدتً هذا المقال في منتديات كثيرة منها  " شبكة انا المسلم" و " شبكة الألوكة" و " منتديات الجامع الإسلامية" .
ومن يقرأ تعليقات قرائهم عليه يصاب بالدهشة من شدة ترحيبهم بما احتواه من افكار عبّرت عن مكنونات صدورهم. فكانت تعليقاتهم " بوركت يا أخي" , " لله درك ... زادك الله علما" , "....فما يدرينا لعل التاريخ يعيد نفسه,وتعود العزة للمسلمين ويكون هناك عبيد وإماء, مميز موضوعك أخي , يجعلنا فعلا نتحسر على ما وصل المسلمون إليه الآن ومافقدوا وماخسروا, جزاك الله خيراً" وغير ذلك من عبارات التقريظ.

ماذا خسر المسلمون بإلغاء الرق؟

.... لقد انبهرنا بالثقافة الغربية وهيمنتها إلى حد صدقنا فيه بعض الكذبات من كثرة ما رددت علينا، وصرنا نتصور بعض القضايا بمفاهيم غير إسلامية، ثم نناقشها على ذلك الأساس. ابتدع الكفار لحماية ثقافتهم وأفكارهم أنبازا يقذفون بها من حاد عن صفهم، صار بعضنا اليوم في البلاد الإسلامية يخشى أن يقذف بها إذا تكلم بالحق : معاد للسامية (لمن يعادي اليهود)،كاره للمثليين (لمن يتبرأ من عمل قوم لوط)،جنسي(لمن يرى قوامة الرجل على امرأة)، عنصري واستعبادي (لمن يسلّم بمشروعية الاسترقاق).أثار أعداء ديننا شبهة إقرار شريعتنا للرق للطعن في الإسلام، فانبرى العلماء والمفكرون للرد على شبهات المبطلين، وإن كان معظمهم أفلح في إظهار الفارق بين "رقنا" و"رقهم"،فإن جمهور من تكلم في قضية الرق خلص إلى أن الإسلام عمل على إلغاء الرق وإعدامه، وأن ما نعيشه في العصور المتأخرة من منع الاسترقاق إنما هو من بركة الإسلام وأن تلك نعمة ينبغي أن نشكرها.والحق أن إلغاء الرق من المصائب العظيمة التي مني بها المسلمون بسبب ابتعادهم عن شريعة ربهم و تقاعسهم عن نصرة دينه سبحانه وتعالى، وانقطع بانقطاع الرق سبل كثيرة من سبل الخير في الدنيا والآخرة على المسلمين، نعم... لقد خسر المسلمون بإلغاء الرق نعما كثيرة اقتضتها حكمة الله تعالى في تشريع هذا النظام المحكم العادل....
سأعدد لك -أيها القارئ الكريم- في هذا المقال -إن شاء الله تعالى- شيئا مما وقفتُ عليه من النعم التي حُرمتها أنا وأنت وكل مسلم بسبب إلغاء الرق، هذه المصيبة التي ينبغي أن نحتسب أجرها عند الله تعالى، فأقول:خسر المسلمون بإلغاء الرق ...
....
سبيلا من سبل الدعوة إلى الله تعالى
... كان استرقاق المسلمين الكفار من أعظم سبل الدعوة إلى الإسلام وإنقاذ الناس من الكفر، ذلك أن الكافر إذا أُسر وعاش بين ظهراني المسلمين ورأى حسن معاملتهم فإنه لا يلبث أن يقتنع بهذا الدين العظيم فيسلم، وإن لم يسلم هو أسلمت ذريته التي تنشأ في بيئة إسلامية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، فإن عددا لا يحصيهم إلا الله تعالى من الرقيق دخلوا في الإسلام ثم صاروا أو صار أبناؤهم وأحفادهم علماء وملوكا ومجاهدين يدافعون عن الإسلام وينصرونه....
...سبيلا من سبل الأجر
.... لقد كان إعتاق الرقيق مكرمة في الجاهلية والإسلام، وكان المسلمون يهرعون إلى الإعتاق إذا ألمت بهم المصائب وحلت بهم النوائب ورأوا آيات العذاب.... وكثيرا ما نقرأ في كتب التاريخ أن فلانا من الملوك أو الأغنياء ألم به مرض أو مصاب فأعتق جميع غلمانه، أما في مواسم الخير فكان سلفنا يتسارعون إلى إعتاق العبيد في العشر الأواخر من رمضان وفي يوم عرفة عند الموقف عسى أن يعتق الكريم جل جلاله رقابهم من النار. كأني بك أيها القارئ الكريم الراغب في رحمة الله تحترق شوقا لأن تعتق نسمة مؤمنة، وترى الفرح والسرور على وجه ذلك العتيق،وتسمعه يلهج لك بالدعاء أن:"أَعتَقَ الله من أعتقني!" لكن أنّا لنا ذلك،فقد ألغي الرق فإنا لله وإنا إليه راجعون....
...سبيلا من سبل الاستعفاف والإعفاف
صار الزواج معضلة من معضلات العصر بين شباب المسلمين، لأن قسمة قضاء الوطر في عصرنا ثنائية : زواج أو زنا ! وكانت قسمة أسلافنا ثلاثية : زواج أو زنا أو...تسرّي! .....والكلفة في الحالتين: التسرّي بملك اليمين أو نكاح الأمة، أقل وأيسر من نكاح الحرة، فلعلك ترث أمة أو تُوهبها أو تدخر لتشتريها كما تدخر لشراء الثلاجة والسيارة! بخلاف الحرة التي لا يُتوصل إليها إلا بالوسائل العظيمة والأموال الجزيلة ثم تشترط عليك الشروط الكثيرة ..أما الأمة فأنت سيدها تأتمر بأمرك وتنتهي بنهيك...تخيل أيها القارئ الكريم أننا لا نزال ننعم بنعمة الرق، أليس في ذلك سبيل إحصان لجحافل العزاب في مجتمعاتنا؟ أليس نكون كُفينا آفات العزوبة من تهتك أخلاقي وأمراض نفسية....
ثم لعلك تقول :هاهي ذي فائدة الرق في إحصان الرجل، فما فائدته في إحصان المرأة؟ فأقول :هب أن المسلمين استعادوا قوتهم وغزوا أقواما من الكفار وسجنوا رجالهم أو قتلوهم، فما يُفعل بنسائهم من ينفق عليهن... من يحميهن... من يحصنهن ويعفهن؟...........تالله إن السبي رحمة للبشر -كفارا ومسلمين- لو كانوا يعلمون، فتأمل كيف تكون المرأة امرأة كافر محارب للإسلام، ثم يقتل زوجها في الحرب فتقع في سهم رجل من المسلمين، فيتسراها، فتصير من حريمه يصونها ويحصنها ويحفظها ويحرم ديننا -الذي ذم الدياثة- عليه أن يفرط في عرضها.....
...سبيلا من سبل التفرغ للعبادة
...ثم إنك قد تعجب من كثرة صلاة سلفنا وكثرة صيامهم وتفرغهم للعبادة والتلاوة والذكر والتسبيح بما لا نستطيع معشار عشره، فنحن يلزمنا الذهاب صباحا إلى الدوام، فنكدح ثمانية ساعات ثم نعود مرهقين إلى بيوتنا فنرتمي على فرشنا صرعى أخي الموت!نعم... قد بورك لسلفنا في أوقاتهم، ومن هذه البركة أن سخر الله تعالى لهم الغلمان والعبيد الذين يكفونهم المهنة وأشغال البيت، فاعجب من حكمة الله في تشريع الرق ...ثم اعجب ...ثم اعجب ......سبيلا من سبل الرزق
... كانت تجارة الرقيق يوم كانت سوق الجهاد قائمة من أعظم دعائم الاقتصاد الإسلامي، فهذه مدينة الجزائر -حرسها الله- أيام الجهاد في أوائل العهد العثماني كان قائمةُ اقتصادها على الغنائم والسبي مما يناله المجاهدون في غزوهم البحري….فكون العبد رقيقا باب من أبواب الرزق لطائفة من الناس خرقى أو سذج لا يحسنون الاسترزاق، أو لا تتاح لهم فرص العمل ...
...سبيلا من سبل إكرام المسلمين ومعاقبة الكافرين
قال الشنقيطي رحمه الله :" ........ فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره. وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير جلَّ وعلا ـ عقوبة شديدة تُناسب جريمتهم. فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشِراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية...."
...سبيلا من سبل علو الهمة في المروءة
لو تساوى الناس في الغنى والفقر، والرفعة والوضاعة، والصحة والمرض، لاختل ناموس الحياة ولما احتاج بعضهم إلى بعض، ولما ميزوا بين الحسن والقبيح، فإن الضد يظهر حسنه الضد، لذلك رفع الله سبحانه وتعالى عباده بعضهم فوق بعض درجات ليفتن بعضهم ببعض، وليتخذ بعضهم بعضا سخريا،ومن ذلك أن خلق تعالى أناسا وسخرهم ليكونوا عبيدا وخلق أناسا وسخرهم ليكونوا أحرارا وفرق الله سبحانه وتعالى بينهم كونا وشرعا.....
وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله :" لفظ الحرية في اللغة العربية كان يطلق على السلامة من النقائص التي كانوا يعتبرونها من صفات العبيد...فهذه الحقيقة الواقعة كانت حافزا للأحرار أن يُعلُوا همتهم في المروءة فلا يشابهوا الأخلاق التي تفشو في العبيد فيُعيَّروا بذلك....
ثم ألغي الرق ، وحرر العبيد من الاسترقاق وبعضهم لـمّا يحرر بعد من مساوئ الأخلاق التي كانت مستساغة في حقهم أو متجاوز عنها أيام كونهم رقيقا، ثم اختلط الأحرار والمحررون وامتزجت أخلاقهم فضاعت الكثير من خصال المروءة لانعدام الحافز لتحصيلها.
...سبيلا من سبل التخفيف في التكاليف
....خفف الله سبحانه وتعالى برحمته على الرقيق في تنصيف الحد وسقوط الجمعة والزكاة ...، وتنصيف العدة على الإماء، وخُفف على الإماء في أمور الحجاب والستر....
خاتمة
إن من تمعن في نصوص الكتاب والسنة ونظر في كتب الفقه و التاريخ والأدب ليستخلص أضعاف ما ذكرته من حِكم الرق ومنافعه التي حرمناها في زماننا هذا، وكان القصد من هذا المقال أولا أن نصحح مفاهيمنا على ضوء النصوص الشرعية، ولا نبالي إن نخر الكفار ،فإن الكافر مهما عظم شأنه عند قومه أقل وأذل من أن يعبأ برأيه ويسمع لقوله في مثل هذه القضايا التي كفانا ديننا العظيم معالجتها...
نسأل الله تعالى الهداية والسداد.
وهكذا يعبّر هؤلاء المتخلفون عن حقيقة رأيهم بلا مواربة. فهم يتكلمون فيما بينهم في منتدياتهم الخاصة ولا يشعرون بالحاجة الى تزويق الكلام للتورية على موقفهم من نظام الرق البائد. هم لا يشعرون بالحاجة بعد الآن الى "النفاق" ومسايرة الدعوات الانسانية الحديثة التي ترفض نظام الرق من حيث المبدأ وتراه شراً أصيلاً لا بد من اجتثاث أسسه الفكرية. فالانسانية الحديثة لا تقبل أنصاف الحلول فيما يتعلق بالعبودية, فلا تهاون ولا هدنة مع نظام استرقاق الانسان لأخيه الانسان. هكذا هي الحضارة والمدنية: رفضٌ تام لأصل نظام العبودية وبكل الظروف والأشكال وتحت أي مسمّى وبدون أي استثناءات. والظاهر أن عتاة السلفيين من بني قومنا قد ضاقوا ذرعاً بهذه الدعوات الانسانية التي اضطروا للسكوت عنها زمناً طويلاً الى أن قرروا اعلان رفضهم لها فكتبوا هذا المقال ليخاطبوا به جمهورهم والذي حشدوا فيه كل حججهم الشرعية والمنطقية , وجعلوه باسم وهمي "سيد احمد مهدي" حتى يجنبوا كبار شيوخهم الحَرَج امام الرأي العام ويمكنوهم من التنصّل منه اذا اقتضت الضرورة.    
وسوف أبرز أهم معالم خطابهم الرجعي الذي احتواه مقالهم ذاك:
-          عدم التسليم بمبدأ المساواة بين البشر. انظر الى قولهم " خلق تعالى أناسا وسخرهم ليكونوا عبيدا وخلق أناسا وسخرهم ليكونوا أحرارا وفرق الله سبحانه وتعالى بينهم كونا وشرعا"! ومعنى ذلك ان العبودية هي قدر من الله فرضه على قسم من البشر بينما اختص قسماً آخر بميزة الحرية والشرف ! أيّ انحرافٍ فكريّ هذا ؟! أيّ عنصريةٍ هذه وأيّ شذوذ ؟!
 المسألة هنا تتخطى ما يقوله المدافعون التقليديون عن الاسلام من أن العبودية ونظام الرق كانت امراً واقعاً وجزءاً من الحياة في تلك الايام وانها ليست من شريعة الاسلام في شيئ , بل ان الاسلام فتح كل الطرق للقضاء على تلك الحالة السيئة فحث على تحرير الرق بوسائل عديدة. يأتي السلفيون الجدد هؤلاء ليتحدّوا تلك المزاعم وليعلنوا موقفهم "الشرعي" : الله خلق العبيد عبيداً والاحرار أحراراً وفرّق بينهم في التكوين والتشريع! انتهى الامر, ولا نريد تبريراتكم, والرق جزء من الاسلام, اعترف به وشرّعه.
هم يرفضون الاقرار بأن الله خلق البشر أحراراً متساوين , قبل أن تفرّق بينهم الجنسيات والاديان.   وهذا مؤسف جداً . الم يسمعوا بوصية الامام علي بن ابي طالب لواليه على مصر " الناسُ اثنان : أخ لك في الدين , أو نظيرٌ لك في الخلق" ؟! أم انهم يفهمون الاسلام أكثر من علي بن ابي طالب ؟!
-          عدم احترام الانسان من حيث كونه انساناً. فهم يتبجحون بأن تجارة الرقيق كانت من دعائم الاقتصاد الاسلامي! فلا بأس عندهم بالتربّح عن طريق النخاسة والمتاجرة بآلام البشر وبيعهم كالسلع والبضائع ! أي انهم لا يشعرون بالخجل من الدور الذي قام به العرب والمسلمون تاريخياً بالتجارة في الرقيق ما بين افريقيا واوروبا وآسيا. فبدلاً من الاعتذار عن ذلك وإظهار الندم عليه يأتي هؤلاء اليوم ليتفاخروا بذلك الماضي القبيح.
ولننظر ايضاً الى خطابهم للشاب المسلم اليوم وكيف يشوّقونه لتلك الايام الخوالي " فلعلك ترث أمة أو تُوهبها أو تدخر لتشتريها كما تدخر لشراء الثلاجة والسيارة" ! أنا لا أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن مدى القرف الذي يصيبني لسماع هذا النوع من الامتهان المشين للانسان والاستباحة الفاجرة لكرامته وبشريته.
-          اعتبار ان الاصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب والغزو والقتال. انظر الى قولهم : "هب أن المسلمين استعادوا قوتهم وغزوا أقواما من الكفار وسجنوا رجالهم أو قتلوهم، فما يُفعل بنسائهم؟" . لماذا يفترض هؤلاء ان العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم من الامم لا بد ان تكون علاقة قتل وقتال؟ لماذا يجب ان تكون علاقة غزو متبادل وسلب ونهب؟ ألا يمكن لهؤلاء أن يتصوروا علاقات سلام ووئام وتعاون مع الامم الاخرى؟ ألا يستحق غيرنا من البشر الاحترام والكرامة ؟!  
-          ازدراء فكرة العمل والجد والكدح من اجل العيش واعتبار ان العبادة والصلاة والصيام مقدمة عليها. انظر الى شكواهم " فنحن يلزمنا الذهاب صباحا إلى الدوام، فنكدح ثمانية ساعات ثم نعود مرهقين إلى بيوتنا.. وقد بورك لسلفنا في أوقاتهم، ومن هذه البركة أن سخر الله تعالى لهم الغلمان والعبيد الذين يكفونهم المهنة" ! أي ان هؤلاء لا يريدون أن يعملوا ويشتغلوا , ولا أن يكدحوا وينتجوا , بل يتمنون لو يجلسون مرتاحين في بيوتهم, يصلون ويصومون, بينما يقوم "غلمانهم وعبيدهم" بأعمال " المهنة" ! كلامٌ يطفحُ ازدراءً للعمل والانتاج . ولنلاحظ كيف يشيرون الى "المهنة" باحتقار , وكأنها لا تلائم الا "العبيد"! أما هم , السادة, المؤمنون , فمستواهم أعلى من ذلك.
-         
سوف أكتفي بهذا القدر الذي كتبته , وسأختم كلامي بفقرة من مقالة كتبتها السيدة رجاء بن سلامة رداً على مقال سيد احمد مهدي هذا:

كيف يمكن الحنين إلى العبوديّة، في مطلع الألفيّة الثّالثة، وفي غمرة الاحتفال بالذّكرى السّتّين للإعلان العالميّ عن حقوق الإنسان؟ وفي عصر ندين فيه الأشكال الجديدة للرّق، وهي على أيّة حال أكثر التباسا من الرّقّ بأتمّ معنى الكلمة، ومن السّبي الذي يدافع عنه صاحب المقال، ويعتبره طريقا إلى نشر الإسلام؟
صاحب المقال، هل يعرف حقّا ما هو الرّقّ وكيف يتمّ الاسترقاق، وكيف يتمّ "إنتاج" العبيد؟ هل رأى صورا عن "بيت العبيد" بجزيرة غورية السّنيغالية، وهل رأى ما خطّته أكفّ العبيد المرحّلين على جدران ذلك البيت ("لا تبك يا بنيّ !")، وهل رأى تلك الأصفاد الحديديّة التي تنوء بحملها الجبال، وهل رأى بوّابة الرّحيل بلا عودة؟؟  اختطاف البشر، واجتثاثهم من أسرهم وقراهم، وإبعادهم عن أوطانهم، وتقييدهم، وإخضاعهم للسّخرة، وتحويلهم إلى آلات حيّة، ونفي بشريّتهم وكرامتهم
ولنأخذ سجلّ الأمومة، الحبيب لدى الأصوليّين عادة، في كرههم للأنوثة وتغليبهم الأمومة عليها : هل فكّر صاحب المقال في دموع الأمّهات وصيحات الأطفال الذين فرّقت بينهم وبين أمّهاتهم أيدي النّخّاسين؟ أين الرّحمة في ديانة تسمّي الإله "رحمانا رحيما"، وتحضّ على "صلة الرّحم"؟
هل هناك "أبعد من هذا الحضيض"؟ وأيّ أدوات معرفيّة تصلح لتحليل هذا الحضيض؟