الاثنين، 17 فبراير 2014

المعجزات


 
يوجد في القرآن الكريم حوارٌ مركزيّ بين طرفين : الله عز وجل من جهة , والمشككون في نبوّة محمد (ص) من المشركين واهل الكتاب من جهة أخرى.

وهذا الحوار المركزيّ عنوانه وموضوعه هو طلب الآيات , بمعنى المعجزات , الدالّة على مصداقيّته ولإثبات نبوّته. ونرى هذا الحوار منبثاً في مواقع عديدة من سور القرآن وبالذات المكية منها. ويبدو دور الرسول (ص) في هذا الحوار مجرّد وسيط بين الطرفين المتحاورين دون ان يكون له دورٌ ذاتيّ فيه.

لنتأمّل الآيات التالية التي يطلب فيها مشركو قريش من محمد (ص) ان يأتيهم بمعجزاتٍ خارقة للطبيعة لكي يثبت انه نبي مرسل , بل ويتحدّونه وباصرار :

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ  وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }

{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ . قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

 { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا اللَّه أَوْ تَأْتِينَا آيَة }

{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتينَا بآيَةٍ منْ رَبّه }

{أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ }

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}

( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا , أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا , أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً , أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ. قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً)


فنحن هنا امام طلبٍ متكرر يُوجّه الى الرسول (ص) , بل وتحدٍّ , بأن يأتي بمعجزةٍ خارقة تدعم ادّعاءه بأنه نبيٌّ مرسل من رب العالمين.

ويكون الجواب الالهي بالرفض المبين. يرفض ربنا "منطق المعجزات" الذي يلحّ عليه خصوم النبي(ص) ويرفض الاستجابة لطلباتهم التي تكررت الى حد ان النبي (ص) ذاته شعر بنوع من الحرج والضيق (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) . علماً بأن النبي(ص) كان في أمس الحاجة الى تلك المعجزات حين كان مستضعفاً في مكة يواجه قومه الذين كانوا يستهزؤون بذلك النبي الذي ليس عنده معجزات ولا خوارق للطبيعة ولا اشياء عجيبة مٌبهرة ,,,, لم يكن عنده سوى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة التي لم تقنع القرشيين  ولم تؤثر بهم على مدار 12 عاماً الاّ قليلا.

اذن ؟؟

يريد الله عز وجل من الناس أن يؤمنوا بناءً على الاقتناع والتصديق برسالة محمد (ص) ومضمونها وجوهرها , وهدفها وغايتها,,,, وليس استنادا الى العجائب والغرائب

يريد الله من الانسان ان يؤمن استنادا الى ما يطمئن له قلبه ويصدّق به عقله,,,, وليس استنادا الى العجائب والخوارق


********

ورغم الوضوح القرآني تماماً في رفض " منطق المعجزات " الذي ألحّ عليه مشركو قريش , والاصرار الالهي على عدم الاستجابة لمطالباتهم لمحمد (ص) بأن يأتي بمعجزاتٍ خارقة للطبيعة ليُثبت بها صدق نبوّته ,,,,,, الاّ أننا نجد أن كتبنا وتراثنا ومصادرنا للسيرة النبوية مليئة بأخبار المعجزات والخوارق , بل وطافحة بها ! ولا تكاد تخلو صفحاتها من كلامٍ عن تدخّلٍ الهيّ مباشر في أحداث سيرة النبي(ص) عن طريق معجزات تتكرر وتتلاحق في جميع مراحل حياته (ص) منذ يوم ولادته في مكة الى وفاته في المدينة !

وذلك هو الحال في سيرة ابن اسحق / ابن هشام , ومغازي الواقدي , وطبقات ابن سعد , وتاريخ الطبري , وسيرة ابن كثير ,,,, وغيرها من المصادر الاسلامية.

معجزات وخوارق وأمور عجيبة ومُبهرة تتوالى أخبارها وتفاصيلها في مصادرنا الى حد يثير الدهشة والعجب ! فلو كان الامر كذلك فلماذا اذن انكرته الآيات القرآنية التي أشرنا اليها ؟ ولماذا لم تقل الآيات القرآنية : ها قد أتيناكم يا معشر قريش بالآيات والمعجزات التي طلبتموها ؟! 

وبعد ذلك كله , هل يُلامُ المرءُ إن هو نظر بعين الشك والريبة الى روايات الرواة وأخبار المحدّثين في مصادرنا وكتبنا ؟ هل يُلام المرءُ إن هو لم يصدّق بها كلها ويسلّم بها تسليما ؟!

وهل يُلامُ المرءُ إن هو أصرّ على التدقيق والتمحيص , وعلى أن يُعرض النقلُ على العقل , قبل التصديق والتسليم ؟!

******* 

ولكن كيف تجمّعت تلك الكمية الهائلة من اخبار المعجزات وخوارق الطبيعة في مصادرنا ؟ من اين أتت ؟

الجواب عندي : حُسنُ النيّة , والرغبة في "خدمة الاسلام " !

فكثيرون جداً من المسلمين المؤمنين أرادوا أن " يقدموا خدمة " للاسلام أو لنبيّ الاسلام , حسب اعتقادهم , عن طريق الترويج لتلك المعجزات وخوارق الطبيعة التي من شأنها أن " تدعّم " ايمان المسلم وتردّ على الخصوم والاعداء , وتفحمهم , في ذات الوقت! ومن هنا نبعت تلك " الاخبار " , بحسن نيّةٍ من قائليها, طالبي الأجر والثواب! فلسببٍ ما اعتقد هؤلاء ان الاسلام , ونبيّ الاسلام , لا يجوز ان يكونوا بلا معجزات وخوارق للطبيعة , فكان لا بد ان يتدخلوا.

وسوف استعرض مثالاً , وهو الحديث المشهور للصحابي انس بن مالك والذي يقول فيه ان النبي (ص) وهو طفل صغير قد جاءه الملاك جبريل , واختطفه من بين أقرانه , فشقّ صدره ثم استخرج منه قلبه فأزال منه " علقة " , هي حظ الشيطان منه , ثم غسله بماء زمزم في طستٍ من ذهب , وخيّط صدره بعد ان تمّت عملية التطهير الالهي تلك. واضاف انس بن مالك انه : كان يرى أثر المخيط في صدره (ص) !

وقد اعتمد أصحاب السير والتفاسير هذه الرواية واستفاضوا فيها , ولم يكلفوا انفسهم عناء التفكير : هل ان الله عز وجل يحتاج الى اجراء تلك العملية الجراحية لتطهير نبيّه من شرور الشيطان؟ وهل للشيطان حظٌ أصلاً في النبي(ص)؟ وهل الشر في الانسان هو مجرد قطعة أو غدّة يمكن استئصالها من جسمه ليصبح مطهرا من الآثام ؟

وكثيرٌ من أهل التفاسير أخرجوا هذه القصة ضمن شرحهم لآية ( ألم نشرح لك صدرك ) , حيث جاءت حادثة شق الصدر منسجمة مع ظاهر لفظ الآية.

ولكن ماذا عن رواي الحديث , الصحابي انس بن مالك, الذي أكّد أنه كان يرى بأم عينه أثر الخيط على صدر النبي (ص) بعد عشرات السنوات من حادثة الشق تلك ؟ هل هو يكذب ؟!

حاشا وكلا. لا يمكن ولا يجوز اتهامه بالكذب وهو المسلمُ المؤمنُ الأنصاريّ الذي كان يخدم الرسول(ص) وهو غلامٌ يافعٌ في المدينة لعدة سنوات. ولكن الأمر أبسط من ذلك بكثير! كل ما هنالك ان أنس بن مالك ربما رأى ندبة او جرحا او ما شابه على صدر النبي (ص) فربط الأمر بآية (ألم نشرح لك صدرك) وبتلك القصة التي لا بد انه سمعها من غيره ( لأنه لم يكن قد وُلد حينها) , علماً بأن تلك القصة لم ترد في الحديث على لسان النبي(ص) ذاته بل بصيغة خبرٍ عما حصل له.

كما لا يمكن اغفال ان السيدة عائشة وغيرها من زوجات النبي(ص) لم يذكرن شيئا عن أثر ذلك الخيط على صدر النبي (ص) رغم كونهنّ الأكثر احتمالاً لرؤيته من غيرهن.

هكذا كانت حالُ الرواة واهل الأخبار والمفسرين , بل وحتى الصحابة ,,,, يتساهلون في رواية أخبار المعجزات والخوارق في أحداث السيرة , وأحياناً تتداخل آراؤهم وتأويلاتهم لما يرونه يحصل أو للأحداث والتطورات , مع تفسيرهم لآيات القرآن , مع رغبتهم في خدمة الاسلام ونبي الاسلام , ونيل رضا الله>

*******
ولكن هل يعني ذلك ان النبي (ص) كان بلا معجزات ؟؟

بالتأكيد لا . بل على العكس تماما : كانت معجزاته أكبر وأهم بكثير من كل تلك الخوارق والعجائب!

حياته (ص) كلها معجزة. ولادته يتيماً وحيدا ونشأته فقيراً , عفيفاً , صادقاً أميناً, خلوقاً في مجتمع فاسدٍ موبوءٍ في مكة.

تمسّكه بدعوته , اصراره على الحق , صبره على الأذى ,وعزمه الذي لا يلين ,,,, معجزة.

قولُه لعمّه المشفق المحب حين اتاه ليقنعه بقبول عروض قومه والتخلي عن دعوته ( يَا عَمّ وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته ).

صمودُه حين تعرض للضرب والاهانة وللرجم بالحجارة من سفهاء ثقيف بالطائف , ودعاؤه وقد نزفت دماؤه وهو وحيد منبوذ من قومه ( اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي) ,,,,, معجزة

عفوُه عن جبابرة قريش السفاكين الذين طالما آذوه وعذبوه وتسامحه تجاههم وقوله ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ,,,, معجزة.

كلامه , حكمته , علمه , نوره ,,,,, انجازاته ونجاحاته ,,,, وقرآنه ,,,,, كلها معجزات , وأيّ معجزات

ولعمري ان معجزاته هذه تفوق بكثير , بكثير , بل وبما لا يقارن , تلك الخوارق والعجائب التي يتحدثون عنها من قبيل صخرةٍ تنفلق أو شجرةٍ تتكلم ,,,,,,,,,,,,  

*******

وأما عشاق المعجزات في زماننا هذا فقد انصب اهتمامهم على شيء يسمونه ( الاعجاز العلمي في القرآن والسنة ) , فخصصوا له الميزانيات الضخمة وعقدوا له المؤتمرات واستقطبوا له " دكاترة " ومهندسين  ليروّجوا له ويظهروه للعالم حتى يُبهروه !

ولسانُ حالهم يقول : أيها العالم المتقدم تكنولوجياً وعلمياً , لا تتعبوا انفسكم فمهما فعلتم فلن تتفوقوا علينا نحن المسلمين ! فلدينا نحن  القرآن والسنة وكل ما تنجزونه وتخترعونه , وكل نظريات علوم الطبيعة , موجودة لدينا من 1400 سنة , أي قبلكم بكثير , أيها المساكين ! موجودة في قرآننا نحن , وتحدث عنها نبيّنا نحن ,,,, ولكن كل ما هنالك أنه لم يلاحظها أو ينتبه لها أحدٌ منا نحن المسلمين الاّ مؤخراً (وبعد أن وصلتنا منكم)  , ولكنها موجودة أكيد

جماعتنا يتعاملون مع الغرب ( والشرق ) بهذا المنطق , سواء صرّحوا بذلك أم لا.

وهذه نماذج من " ابداعاتهم " ,,,, ولنلاحظ مدى التكلّف والتعسّف في التأويل من أجل الوصول الى "معجزة" !!  مهووسون بنظرية الاعجاز العلمي الى الحد الذي يجعلهم يأخذ كلمة من هنا , وأخرى من هناك ليركّبوا منها معجزات كيفما اتفق ,,,,




 
ليس عندي تفسير سوى ان الأمر عقدة نقص . عجز وتقصير عن الابداع والابتكار , وفشل في ميدان العلم , يؤدي الى هذا المنهج ,,, منهج عبد الدائم الكحيل وزغلول النجار وبقية جماعة " الاعجاز "
*******
وفي موضوع المعجزات الخارقة للطبيعة, بقيت نقطة أساسية أرغب في توضيحها تتعلق بأصل إمكانية حصول أمر خارق للطبيعة من حيث المبدأ .
أقول : ان الله عز وجل , بحكمته وعظمته , خلق " نواميس الكون " أو  "قوانين الطبيعة" من فيزياء وكيمياء بلغتنا الحديثة. وهي التي على أساسها يسير كل شيء في هذا الكون .
و " نواميس الكون " مُحكمة , وبديعة , ودقيقة جدا, وتتحكم بالحركة والمادة والطاقة والعلاقات بين الأشياء بشكل منتظم  وبقوانين لا مجال فيها للخلل ولا للزلل.    
وبالتالي فمن المستحيل ان يحصل في هذا الكون أي شيء يناقض قوانين الفيزياء أو " نواميس الكون " التي وضعها الخالق عز وجل.
لماذا ؟ لأن ذلك لو حدث لكان معناه أن " نواميس الكون " كلها قابلة للنقض , وبالتالي نصل الى حالة من العبثيّة حيث لا ضابط ولا رابط بين العلة والمعلول وبين الاشياء ومسبباتها. وذلك يعني ان " نواميس الكون " كأنها لم تكن , أو ان الخالق عز وجل يلهو ويعبث , حاشاه.
وقد يقول قائل : ان الذي خلق " نواميس الكون " قادر على أن يجعلها تُنقض في بعض الأحيان بإرادته. ولكن هذا قول مغلوط , لأنه يلغي تعريف " نواميس الكون " من حيث كونها بالضرورة تنظم كل شيء بانضباط ونظام دقيق. أي أنه لو أراد الله أن يجعلها  قابلة للنقض فلن تعود نواميس كونية أصلاً.
وبالتالي فإن حجراً على الأرض لا يمكن أن يرتقع ويطير في الهواء الاّ اذا أثرت عليه قوة مادية أكبر من وزنه الى أعلى. عندها فقط سيطير , ولن يطير بأي وسيلة أخرى أبداً , لا بمعجزة ولا بغيرها ,,,,, ذلك مستحيل ,,,,, لأن تلك من نواميس الكون وبالتالي هي من ارادة الله الكليّة التي لا رادّ لها